المملكة المتحدة والانسحاب من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان

This article is not available in English, but the Arabic version is available

تناولت وكالات الأنباء، ونشرت الصحف، بتاريخ 10/3/2013، تصريحات وزيرة الداخلية لحكومة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال إيرلندا (تيريزا ماي) من أن المملكة المتحدة تدرس الانسحاب من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان "لأنها تؤثر على قدرة الحكومة على مكافحة الجريمة والسيطرة على الهجرة" 1. وارتأت الوزيرة أن على حزب المحافظين الذي يدير شؤون الحكم أن يعالج هذا الموضوع قبل الانتخابات المقررة عام 2015، موضحه أنه: "بحلول 2015 سنحتاج إلى خطة للتعامل مع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان". وأوضحت: "نعم أود أن أوضح أن جميع الخيارات يجب أن تكون مطروحة- بما في ذلك الانسحاب تماما من الاتفاقية" 2.

ونستطيع أن نعالج موضوع انسحاب المملكة المتحدة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان من عدة جوانب سياسية وقانونية. فنحن نعتقد، من الناحية السياسية، بأنه يجب أخذ مثل هذه التصريحات على محمل الجد، كتلك التصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء البريطاني (ديفيد كاميرون)، بتاريخ 23/1/2013، بخصوص إجراء استفتاء قبل نهاية عام 2017 حول بقاء المملكة المتحدة كعضو في الاتحاد الأوروبي 3. ونريد أن نلفت الانتباه، من ناحية، أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تطبق داخل مجلس أوروبا وهي منظمة تضم 47 دولة أوروبية، وهي غير الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة أوروبية. ولكن التطورات التي طرأت بخصوص هذه الاتفاقية الأوروبية في السنوات الأخيرة، وما أضيف إليها من بروتوكولات أحدث، من ناحية ثانية، نقلة نوعية في حماية حقوق الإنسان في القارة الأوروبية. فقد أتاح البروتوكول رقم 14 المضاف إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ودخوله حيز التنفيذ بتاريخ 1/6/2010 4، إمكانية انضمام الاتحاد الأوروبي لهذه الاتفاقية الأوروبية 5. بمعنى آخر، إذا لم تنسحب مباشرة المملكة المتحدة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي حال انضمام الاتحاد الأوروبي إلى هذه الاتفاقية، فإن انسحابها، إذا تم في يوم من الأيام، من هذا الاتحاد، فسيستتبع ذلك انسحابها، ولو بشكل غير مباشر، من الاتفاقية الأوروبية.

أما من الناحية القانونية، فنذكر بالمادة 58 وعنوانها "التنصل" من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 6، وهي تنص على ما يلي:

  1. "لا يجوز لطـرف سـام متعـاقد أن يتنصـل من هذه الاتفاقيـة إلا بعد انقضاء مدة خمـس سـنوات اعتبارا من تاريخ دخول الاتفاقيـة حيز التنفيـذ في حقـه، واعتمـادا على إخطـار يسـبق التنصل بسـتة أشـهر، يُبلّغ إلى الأمين العام لمجلـس أوروبا الذي يخطر سائر الأطراف الأخرى المتعاقـدة.
  2. لا يجوز لهذا التنصـل أن يُحلّ الطرف السـامي المتعاقـد المعني من التزاماته التي تتضـمنها هذه الاتفاقيـة فيما يتعلق بكل فعل يمكن أن يشـكل انتهاكا لهذه الالتزامات إذا ارتكبـه قبل بدء نفاذ هذا التنصل.
  3. بمقتضـى التحفـظ نفسـه، تتوقف عضـوية كل طرف في هذه الاتفاقيـة، إذا توقفـت عضـويته في مجلـس أوروبا.
  4. يجوز التنصـل من الاتفاقيـة تطبيقا لأحكـام الفقـرات السـابقة فيما يتعلق بكل إقليم أعلن تطبيـقها عليـه بمقتضـى المـادة 56".

ولا تحتاج نصوص مختلف فقرات المادة 58 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لشروح مطولة، فهي واضحة بما ترتبه من التزامات على عاتق الدولة التي تنوي "التنصل" أو "الانسحاب" من هذه الاتفاقية. أما بالنسبة للمملكة المتحدة فقد انقضى عدة عقود على تاريخ دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في حقها، وكان ذلك 3/9/1953. ولا نعتقد أنها ستتحل من التزاماتها القانونية التي فرضتها عليها أحكام الاتفاقية الأوروبية قبل انسحابها أو تنصلها منها، ولا نتصور بأن المملكة المتحدة ستنسحب من منظمة مجلس أوروبا وتتوقف عضويتها فيه ليؤدي ذلك بالتالي لتوقف عضويتها في الاتفاقية، وحتى لو تنصلت من الاتفاقية الأوروبية وانسحبت منها فستبقى كعضو مؤسس في مجلس أوروبا.

لكن ما لفت نظرنا في هذا الموضوع هو بعض التصريحات من أعضاء حزب المحافظين، وبحسب ما تناقلته وسائل الإعلام، من أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الهيئة القضائية للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والمكلفة بالسهر على حسن تطبيق الدول الأطراف في هذه الاتفاقية لأحكامها، تتعدى على "السيادة البريطانية" 7.

ولا نفهم كيف تتعدى هذه المحكمة الأوروبية على السيادة البريطانية في الوقت الذي لا يحق فيه تقديم أي شكوى أمام هذه المحكمة ما لم تنظر المحاكم الوطنية، وعلى مختلف أنواعها ودرجاتها، في هذه الشكوى وتبت فيها بصورة نهائية، عملا بالقاعدة القانونية المعروفة: "استنفاد طرق الطعن الداخلية" قبل اللجوء إلى مختلف الهيئات والمحاكم الدولية والإقليمية وتقديم شكاوى إليها. لا يمكن للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان النظر في شكوى ما لم تكن المحاكم البريطانية نظرت فيها وأصدرت أحاما نهائية وقطعية، فمن أين يأتي إذن التعدي على "السيادة البريطانية"!

ولعلنا نذكر في هذا الخصوص بأن تصريحات الوزيرة البريطانية تزامنت مع قرار إعادة الأردني من أصل فلسطيني (عمر محمد عثمان) والمعروف باسم (أبو قتادة)، إلى السجن، بتاريخ 9/3/2013، لأنه خالف شروط الإفراج عنه قبل أربعة أشهر بكفالة 8). وكان قد أطلق سراحه بكفالة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2012، أثر صدور قرار من قبل محكمة الاستئناف المتخصصة بالهجرة، ومن المفترض أن تقدم الحكومة البريطانية استئنافا لهذا القرار.

ونذكر في هذا المجال أن بعض البريطانيين قدم قضية (أبو قتادة) كمثال للنقد الموجه للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ولأحكامها مذكرا بقرارها بعدم ترحيله إلى الأردن. فقد قضى (القسم الرابع)، الذي تشكل كغرفة من غرف هذه المحكمة الأوروبية، وبتاريخ 17/1/2012، بأن ترحيله إلى الأردن يمكن أن يخالف أحكام المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 9 خشية الحصول على معلومات منه عن طريق التعذيب.

ولكن يبدو أن هناك نوع من الانتقائية من قبل الحكومة البريطانية في النظر إلى أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. في حين تنتقد هذه الحكومة أحكام المحكمة الأوروبية بخصوص (أبو قتادة)، فهي تمتدحها في قضايا أخرى مثل قضية (بابار أحمد وآخرون)، حيث قضى (القسم الرابع)، الذي تشكل كغرفة من غرف هذه المحكمة الأوروبية، وبتاريخ 10/4/2012، بأن حقوق أصحاب هذه القضية لن تتعرض للانتهاك إذا قامت الحكومة البريطانية بتسليمهم للسلطات القضائية الأمريكية التي تطالب بهم منذ عدة سنوات بتهم إرهاب وخطف.

لا نخفي استغرابنا من التصريحات التي أدلت بها الوزيرة البريطانية فيما يتعلق بموقف حكومتها، وبما عبر عنه أيضا بعض أعضاء حزب المحافظين بخصوص الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وبخاصة هيئتها القضائية: المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وما تصدره من قرارات وأحكام. ولا ننسى في هذا المجال أهمية الشروط المتعلقة بتقديم الشكاوى إلى هذه المحكمة الأوروبية، وفي مقدمتها قاعدة "استنفاد طرق الطعن الداخلية"، وتشكل المحاكم والمؤسسات القضائية العرقية والمعروفة في المملكة المتحدة ضمانة كافية وأساسية لتحقيق السيادة الوطنية وتطبيقها قبل اللجوء إلى المحكمة الأوروبية. كما يجب أن يبقى ماثلا في الأذهان أن احترام حقوق الإنسان وتطبيقها هو كل متكامل، ولا يتجزأ، ولا يقبل الانتقائية. وإذا لم توافق أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سياسات الدول الأطراف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان فربما توافقها غدا أو سبق أن وافقتها، فلا يجوز أن ترتبط إذن أحكام هذه المحكمة الأوروبية بسياسات الدول بل تبقى أعلى منها، لأن هذه السياسات تتبدل حسب مصالح الدول في الوقت الذي تدور في أحكام المحكمة الأوروبية حول حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.


رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، فرنسا. أستاذ زائر، جامعة الجنان، طرابلس، لبنان.



[1] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ 10/3/2013.

[2] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ المصدر السابق.

[3] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ أجرى معهد (بوبولوس)، استطلاعا لصالح صحيفة (التايمز) البريطانية، على شريجة من ألفي بريطاني، أوضحت أن 53% من البريطانيين يؤيدون الخروج من الاتحاد الأوروبي مقابل 47% يريدون البقاء في الاتحاد. (المصدر موقع (CNBC عربية) تاريخ 25/1/2013.

[4] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ انظر بخصوص البروتوكول رقم 14، محمد أمين الميداني " دخول البروتوكول رقم 14 المضاف إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان حيز التنفيذ"، موقع (مساواة)، المملكة العربية السعودية، شباط/فبراير، 2010: http://www.musawah.net/news/item.php?id=813

[5] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ لم ينضم الاتحاد الأوروبي، حتى تاريخ 11/3/2013، إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

[6] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ انظر نص الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في: محمد أمين الميداني، نزيه كسيبي، الاتفاقيات الأوروبية لحماية حقوق الإنسان (ترجمة)، منشورات مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، سلسلة تعليم حقوق الإنسان 22، القاهرة، 2010، ص 33 وما بعدها.

[7] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ راجع المصدر رقم (1).

[8] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ انظر موقع صحيفة (الحياة) التي تصدر في لندن، تاريخ 10/3/2013.

[9] موقع البي بي سي بالعربية، تاريخ تتعلق المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بالحق في محاكمة عادلة.

back