مما يثلج الصدور، ويعزز مبدأ احترام سيادة القانون وتطبيقه من قبل العديد من المحاكم في الدول الأوروبية هو رفض المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومقرها مدينة ستراسبورغ بفرنسا 1، حجج المدعي في شكوى فردية قُدمت إليها من قبل السياسي الفرنسي (إيريك زومور/Eric Zemmour)، وكان هذا الرفض موضوع آخر أحكامها التي صدرت نهاية العام الفائت 2.
أكدت هذه المحكمة الأوروبية، وبالأغلبية قضاة غرفتها المؤلفة من سبعة قضاة (تضم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أيضا غرفة من ثلاثة قضاة، وغرفة عليا مؤلفة من 17 قاضيا يرأسها رئيس هذه المحكمة)، وفي حكمها تاريخ 20/12/2022، بأن الإدانة الجزائية لهذا السياسي من قبل محكمة الصلح الفرنسية ولاحقا المحاكم الفرنسية على مختلف درجاتها، بسبب التحريض على التمييز والكراهية الدينية تجاه الجالية المسلمة الفرنسية، لا ينتهك أحكام المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 3.
ولكن ما هو نص المادة 10 من هذه الاتفاقية الأوروبية؟ تنص هذه المادة وعنوانها: حرية التعبير، على ما يلي: 1- لكل شـخص الحـق في حرية التعبير. ويشـمل هذا الحـق حـرية الرأي، وحـرية تلقي المعلـومات أو الأفكـار وإذاعتهـا من دون تدخل السـلطات العامـة ومن دون التقيـد بالحـدود الجغـرافية. لا تمنـع هذه المـادة الدول من إخضاع نشـاط مؤسـسـات الإذاعة أو السـينما أو التلفزة لطلبـات الترخيـص.
2- يجـوز إخضـاع ممارسـة هذه الحريات التي تتطلـب واجبـات ومسـؤوليات لبعـض الشـكليات أو الشـروط أو القيود أو المخالفـات التي يحـددها القانون، والتي تُعّد في مجتمـع ديمقراطـي تدابير ضـرورية لحفـظ سـلامة الوطن وأراضـيه، والأمن العام وحمـاية النظـام، ومنع الجريمـة، وحمـاية الصـحة والأخلاق، وحمـاية حقـوق الآخرين وسـمعتهم، وذلك لمنع إفشـاء المعلومات السـرية، أو ضمان سـلطة الهيئة القضـائية ونزاهتها".
أما فيما يتعلق بملابسات هذه القضية، فيجب أن نوضح بداية أن المدعي من مواليد فرنسا عام 1958، وبدء مشوراه كمعلق ومحلل سياسي في محطات التلفزة الفرنسية، ونشر العديد من الكتب والمقالات، واختار اعتبارا من عام 2021 أن يدخل المعترك السياسي، ورشح نفسه للانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022، ولكن لم يحصل إلا على نسبة %5 من أصوات المقترعين في الجولة الأولى من هذه الانتخابات ليخرج من حلقة المنافسة في الجولة الثانية!
أطلق المدعي بعض التصريحات في برنامج تلفزيوني بُث بتاريخ 16/9/2016، وهو يتحدث عن أحد كتبه، وبخاصة أحد فصوله بعنوان: فرنسا أمام تحد الإسلام، تصريحات وأجاب على أسئلة أحد الصحفيين. ودفعت هذه التصريحات والأجوبة جمعية التعاون للنداءات من أجل سلام عادل في الشرق الأدنى، لتقديم شكوى ضده أمام محكمة الصلح في باريس اعتمادا على الفقرة 7 من المادة 24 من قانون عام 1881 المتعلق بحرية الصحافة. حيث تحظر هذه الفقرة من المادة المذكورة التحريض على التمييز، والكراهية، والعنف في حق شخص أو جماعة من الأشخاص بسبب أصولهم، أو انتمائهم، أو عدم انتمائهم لأثنية ما، أو لقومية، أو لعرق، أو ديانة محددة.
أما العناصر التي استندت إليها الجمعية في دعواها ضد المدعي فهي:
1- على السؤال الذي طُرح على المدعي: "هل يعيش المسلمين في فرنسا بسلام، ولا يفسرون نصوص القرآن بشكل حرفي، وهل هم مندمجين؟"، فكان جوابه "لا"؛
2- قول المدعي: "جنود الجهاد يتم اعتبارهم من قبل المسلمين، سواء قالوا أو لم يقولوا، بأنهم من خير المسلمين، هؤلاء المحاربين، هم جنود الإسلام"؛
3- سأل الصحفي المدعي هل الإرهاب مروع؟ فأجاب المدعي: "هذا ليس الإرهاب بل هو الجهادية، فهو إذن الإسلام". وسأل الصحفي المدعي: "أنت تضع علامة = بين الجهادية والإسلام"، فرد المدعي: "بالنسبة لي نفس المعنى".
4- قال المدعي: "نحن نعيش غزوة منذ ثلاثين عاما، استعمار يسبب الانفجار. وفي العديد من الضواحي الفرنسية حيث يوجد العديد من الفتيات المحجبات، هو أيضا الكفاح ضد أسلمة الأرض، والتي هي بالطبع ليست أرضا إسلامية، هي أرض الكفار. نفس المعنى، هو احتلال للأرض".
5- قال المدعي: "أعتقد بأنه يجب إعطائهم (المسلمون الذين يعيشون في فرنسا)، الخيار بين الإسلام وفرنسا". وتبع هذه الجملة التأكيد على أنه: "إذا كانوا من الفرنسيين، فيجب عليهم، وسيكون ذلك صعبا لأن الإسلام لا يقبل بذلك، يجب عليهم التخلي عن ديانتهم".
ويمكن تلخيص حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في هذه القضية بالنقاط التالية:
النقطة الأولى: رأت المحكمة الأوروبية، بأن إدانة المدعي سببها جنحة الدعوى للتمييز والكراهية الدينية تجاه مجموعة من الأشخاص بسبب انتمائهم للديانة الإسلامية. وذكّرت المحكمة بأن عليها أن تتحرى عما إذا كانت أحكام المحاكم الوطنية في البلدان الأطراف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وتبعا لهامش التقدير الممنوح لهذه المحاكم يحترم مضمون المادة 10 من هذه الاتفاقية الأوروبية. وأوضحت المحكمة بأنها عندما تقوم بهذه المهمة فهي تتأكد من أن السلطات الوطنية في تلك البلدان اعتمدت من خلال محاكمها على مبدأ مقبول ومتوافق مع وقائع كل قضية تعرض عليها.
ولاحظت المحكمة الأوروبية، بأن ما صدر عن المدعي قد جري في أثناء بث برنامج تلفزيوني وفي توقيت يستقطب أعداد كبيرة من المشاهدين. وأوضحت بأنه نظرا لمكانة المدعي، من ناحية، وتبعا، من ناحية ثانية، لطبيعة الأسئلة التي تم طرحها عليه والتي دارت حول مكانة الإسلام في المجتمع الفرنسي، وبخاصة في خضم الأحداث الإرهابية، فإن ما قيل يلفت انتباه المشاهدين، أو يمكن أن يؤثر عليهم، وهو يتعلق بنقاش له طابع المصلحة العامة.
وأوضحت المحكمة الأوروبية، بأن أقوال المدعي وتصريحاته لا تخرج عن نطاق الفقرة 2 من المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية، مما يعني بأنه يجب التأكد من أن تقديرات المحاكم الوطنية والمتعلقة بتلك الأقوال والتصريحات يمكن اعتبارها "خطاب كراهية". وإذا كانت بالفعل كذلك، فهل العقوبة التي فُرضت على المدعي متناسبة مع الهدف المنشود وآخذة بعين الاعتبار مختلف العوامل التي تتصف بها هذه الأقوال والتصريحات، مع مراعاة الظرف الذي يحيط بهذه القضية.
وذكّرت المحكمة الأوروبية، وفيما يتعلق بداية بطبيعة الأقوال والتصريحات، بأن المدعي أشار إلى المسلمين في فرنسا، وقال بأنه يمكن اعتبارهم "مستعمرين"، و"غزاة" ويسعون إلى "أسلمة" الأراضي الفرنسية، وأكد بأن هذه الحالة تستدعي "أن يختاروا بين الإسلام وفرنسا".
وبينت المحكمة الأوروبية بأن حكم محكمة الصلح، ولاحقا تأكيد هذا الحكم من قبل محكمة الاستئناف، ومحكمة النقض حين تم الطعن أمامهما فيما يتعلق بهذه القضية، أكد بأن أقوال المدعي تخص الجالية الإسلامية في مجموعها، أي مجموعة أشخاص هم ضحايا التمييز بسبب الدين.
وترى المحكمة الأوروبية بأن المحاكم الوطنية الفرنسية فصلت بأن أقوال المدعي وتصريحاتها التي تسعى لإظهار المسلمين كتهديد للأمن العام، ولقيم الجمهورية، واعتبارهم من المتضامنين مع العنف الذي يتم باسم دينهم، هذه الأقوال تغزي الإحساس العام برفضهم، وهي أقوال وتصريحات لا تقتصر على انتقاد الإسلام أو صعود التطرف الديني في الضواحي الفرنسية. وقدرت المحكمة الأوروبية بأن هذه المحاكم الوطنية التي أدانت المدعي قد أخذت بعين الاعتبار توصيف المسلمين وتخيرهم بين ديانتهم والعيش في فرنسا، واستنتجت بأن هذه الأقوال والتصريحات تدعو بالفعل إلى رفضهم واستبعادهم.
ورأت المحكمة الأوروبية أيضا بأن هذه الأقوال والتصريحات تتضمن أيضا أشكالا سلبية وتميزية تخلق هوة بين الفرنسيين والجالية الإسلامية في مجموعها. وأن استخدام عبارات عدائية للحديث عن "استعمار" فرنسا من قبل "المسلمين" يشكل أهدافا تميزية، وليس القصد منه إبداء رأي يتعلق بصعود التطرف الديني في الضواحي الفرنسية.
واعتبرت المحكمة الأوروبية، وتبعا لهذه الوقائع، وعلى ضوء أحكام المادة 17 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وعنوانها: منع التعسف في استعمال الحق، والتي تنص علي ما يلي: "لا يجوز تأويل أي حكم من أحكام هذه الاتفاقيـة على أنها تخول أي دولـة أو جمـاعة أو فرد حق القيـام بنشـاط أو عمـل يهدف إلى إهـدار الحقـوق والحـريات المقررة في هذه الاتفاقية، أو فرض قيـود على هذه الحقـوق والحـريات أكثر من تلك التي نصت عليها الاتفاقية"؛ بأن أقوال المدعي وتصريحاته لا تستفيد من الحماية التي تضمنها المادة 10 من هذه الاتفاقية الأوروبية، وأن المحاكم الفرنسية استفادت من الهامش التقديري للحد من هذه الحرية، ومؤكده سعيها لمكافحة التمييز العنصري وأي شكل من أشكاله.
النقطة الثانية: أشارت المحكمة الأوروبية إلى أن المدعي اطلق أقواله وتصريحاته في أثناء برنامج تلفزيوني يبث مباشرة وفي وقت يتابعه العديد من المشاهدين مما يعني بأنه سيصل إلى نسبة عالية من المشاهدين. وذكرت المحكمة بهذه المناسبة بدور البرنامج التلفزيونية على استقطاب المشاهدين والتأثير عليهم. ولفتت النظر إلى أن المدعي كان صحافيا ومعلقا، ومعروف بتصريحاته الجدلية. ولا يعفيه الادعاء بأن يتحدث شخصيا وكمؤلف لكتاب من مراعاة "الواجبات والمسؤوليات" التي يجب أن يتصف بها الصحفي. ومن المؤكد بأنه يعرف أهمية أقواله ويقدر نتائجها.
النقطة الثالثة: تبين للمحكمة الأوروبية بأن أقوال المدعي لا تقتصر على انتقاد الإسلام، ولكنها تظهر، وبالأخذ بعين الاعتبار الوضع العام، بشكل تمييزي يدعو المشاهدين لنبز الجالية المسلمة واستبعادها في مجملها، مما يضعف الترابط الاجتماعي.
ورأت المحكمة الأوروبية بأن مبررات القضاء الفرنسي وحكمه بالإدانة الجزائية على المدعي، كانت مناسبة ومبررة فيما يتعلق بتطبيق أحكام المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية.
وأوضحت المحكمة الأوروبية بأنها مقتنعة بأن هامش التقدير الممنوح للدولة الفرنسية في هذه القضية، والحكم الذي أصدرته محاكمها بتغريم المدعي بدفع 3000 يورو، لم يكن مبالغا فيه، وأن التدخل في حرية التعبير والحد منها كان متجانسا مع الهدف المنشود.
وتوصلت أخيرا المحكمة الأوروبية بأن التدخل في ممارسة المتهم لحقه في التعبير كان ضروريا في مجتمع ديمقراطي بقصد حماية حقوق الآخرين موضوع القضية المعروضة عليها، ولم يتم تسجيل أي انتهاك لأحكام المادة 10 من هذه الاتفاقية الأوروبية.
سعينا لعرض قضية من بين العديد من القضايا التي قُدمت إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وكانت المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وتطبيقاتها محور أهم اجتهادات هذه المحكمة الأوروبية.
وكان قصدنا من عرض هذه القضية بالذات، وهي قضية حديثة فصلت فيها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، عدة أسباب أهمها:
1- التذكير بوجود هذه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي بدأت بمباشرة نشاطاتها عام 1959، ولا يزال الكثير يجهل وجودها !
2- تفنيد الكثير من الأقوال والادعاءات بأن هذه المحكمة الأوروبية لا تنصف من يشتكي إليها ممن لهم أصول عربية أو غير أوروبية أو من بين أبناء الجاليات الإسلامية في أوروبا.
3- التأكيد على أهمية المادة 10 من بين مواد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي تنص على حرية التعبير، وتقيد هذه الحرية وتضيق تطبيقها لأسباب عديدة جاءت في الفقرة 2 من هذه المادة. فحرية التعبير ليست مطلقة بلا حدود.
4- تُعّد حرية التعبير حقا أساسيا من حقوق الإنسان، ومظهرا حضاريا، وممارسة ديمقراطية، وتطبيقا لمبدأ سيادة القانون، ووسيلة فعّالة يجب استخدامها بشكل يهدف إلى عرض الآراء والأفكار بطريقة سلمية، وبأسلوب يعزز قيم الحق والحرية والمساواة، ولا يجوز استخدامها بهدف الإساءة أو التشهير أو المس بحياة الآخرين أو خصوصيتهم أو كرامتهم، ولا أن توظف بهدف الإخلال بالتكافل الاجتماعي والحفاظ على السلم الأهلي.
5- تلعب المحاكم الدولية، وبخاصة محاكم حقوق الإنسان، ويوجد حاليا ثلاث محاكم: المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان ومقرها سان خوسيه (كوستاريكا)، والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب ومقرها أروشا (تنزانيا)، أدوارا هامة وأساسية وحيوية في السهر على احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
[1] انظر بخصوص المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، محمد أمين الميداني، النظام الأوروبي لحماية حقوق الإنسان، الطبعة الخامسة، منشورات الحلبي الحقوقية، 2023، ص 213 وما بعدها.
[2] انظر هذه القضية على الرابط، تاريخ الاطلاع 5/1/2023:
[3] انظر بخصوص الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، الميداني، النظام الأوروبي لحماية حقوق الإنسان، الطبعة الخامسة، 2023، ص 43 وما بعدها.