هل يمكن أن تكون المساعي للمحاسبة عما يُرتكب في أوكرانيا نموذجا للمحاسبة عما أُرتكب في دول أخرى؟

This article is not available in English, but the Arabic version is available

يبحث خبراء القانون، وبخاصة في أوروبا، الأوضاع الخطيرة التي تمر بها دولة أوكرانيا، ويتدارسون الحالات القانونية الناتجة عن الغزو الروسي لأراضي هذه الدولة والذي بدأ في 24/2/2022، مما أدى إلى اندلاع حرب أوروبية جديدة. وتولدت العديد من النتائج عن هذه الحرب من قتل وتدمير وتشريد يضاف إليها ما يتم ارتكابه من مختلف أنواع الجرائم التي تحدث في أثناء الحروب والعديد من النزاعات المسلحة، في الوقت الذي ظن أهل القارة الأوروبية أنهم في منأى عن حرب جديدة ونزاعات مسلحة وما يتولد عنها من مختلف المآسي والخراب وتدهور للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية !

ويتم التركيز على تحرك ثلاث محاكم دولية وإقليمية، وهي: محكمة العدل الدولية، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية، وكل في اختصاصها لتبيان حالات انتهاك القانون الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، وارتكاب لجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي وقعت على الأراضي الأوكرانية منذ بدء الحرب. وتُطرح أسئلة عما إذا كانت المحاسبة عن مختلف هذه الانتهاكات والجرائم يمكن أن تكون نموذجا لمحاسبات أخرى عن انتهاكات مماثلة وجرائم مشابهة وقعت في بلدان أخرى على سطح هذه المعمورة؟ كما يدور النقاش حول ما يمكن أن يصدر عن هذه المحاكم ومواقفها المتعلقة بهذه الحرب الأوروبية؟

سنخصص هذه المقالة لموقف المحكمة الجنائية الدولية وقرارات مدعيها العام فيما يجري في أوكرانيا، ويمكن أن نتطرق في مقالات قادمة لموقف محكمة العدل الدولية، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

أولا : التعريف المحكمة الجنائية الدولية

نجح المجتمع الدولي بتأسيس محكمة جنائية دولية، واختيرت مدينة (لاهاي) الهولندية مقرا لها. ودخل نظامها والمعروف باسم (نظام روما)، حيز النفاذ في اليوم الأول من شهر تموز/يوليو 2002 1.

وصادقت خمس دول عربية على هذا النظام، وهي: الأردن، وتونس، وجيبوتي، وجزر القمر، وفلسطين 2. ووقعت عليه عشر دولة عربية أخرى وهي: الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والجزائر، وسورية، والسودان، وعُمان، والكويت، ومصر، والمغرب، واليمن 3.

وتتألف المحكمة الجنائية الدولية من 18 قاضيا، وانتخب البريطاني (كريم خان) مدعيا عاما جديدا لهذه المحكمة، ولولاية مدتها 9 سنوات، بدأت في 16/6/2021.

وتتمتع هذه المحكمة الجنائية بعدة اختصاصات، وهي: اختصاص موضوعي، واختصاص مكاني، واختصاص شخصي، واختصاص زماني، واختصاص تكميلي 14.

ثانيا : ممارسة المحكمة لاختصاصاتها : اوضحت المادة 13 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 5 الحالات التي تمارس فيها المحكمة اختصاصاتها السالفة الذكر. وهذه الحالات هي التالية:

"أ- إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام وفقا للمادة 14 6 حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت 7؛

ب- إذا أحال مجلس الأمن، متصرفا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت؛

ج- إذا كان العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقا للمادة 15".

ثالثا : المحكمة الجنائية الدولية والحرب في أوكرانيا

يجب أن نذكر بادئ ذي بدء بأن لا روسيا الاتحادية ولا أوكرانيا قد صادقتا على نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي تم اعتماده عام 1998، ودخل حيز النفاذ في عام 2002 8.

ولكن سمحت الفقرة (ج) من المادة 13 من نظام المحكمة، وعنوانها: "ممارسة الاختصاص"، للمحكمة أن تمارس اختصاصها، وكما ذكرنا، وبحسب ما نصت عليه المادة 5 من النظام "إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم وفقا للمادة 15".

ولكن ما هو مضمون كل من المادتين 5 و15 من هذا النظام؟ وتنص الفقرة الأولى من المادة 5 وعنوانها: "الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة"، على ما يلي: "يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التي سبق وذكرناها ومن المفيد أن نعّددها مجددا، وهي:

1- جرائم الإبادة الجماعية 9.

2- الجرائم ضد الإنسانية 10.

3- جرائم الحرب 11.

4- جريمة العدوان 12.

أما المادة 15 وعنوانها: "المدعي العام" فتسمح للمدعي العام للمحكمة، وبكثير من التفاصيل، بمباشرة التحقيقات في الجرائم التي نص عليها نظام المحكمة.

وكان أن قبلت أوكرانيا اعتبارا من عام 2014، وبمقتضى الفقرة 3 من المادة 12 من نظام المحكمة الجنائية الدولية باختصاصها 13 فيما يتعلق بعدة جرائم تنتهك قواعد القانون الدولي مثل: جريمة الإبادة، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والتي وقعت على أراضيها. وأتاح هذا القبول لمكتب المدعي العام، وعلى مدار ست سنوات، القيام بعدة دراسات أولية لعدة بلاغات تتعلق بهذه الانتهاكات. كما تم نشر ما تعلق بهذه الدراسات.

وصدر في عام 2016 تقريرا مرحليا في هذا الخصوص، أوضح بأنه هناك "حالة احتلال قائمة" في شبه جزيرة القرم مؤكدا وجود "نزاع مسلح دولي في نطاق اعتداءات تمت في شرق أوكرانيا منذ 14/7/2014، بالتوازي مع نزاع مسلح غير دولي" 14.

وقام المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية وقتها، من جهة ثانية، وبتاريخ 11/12/2020، واعتمادا على ما اعتبره منطقيا بأن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وقعت على أراضي أوكرانيا منذ عام 2014، بإصدار نتائج خلاصاته، مما استدعى لاحقا قراره بالطلب من الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة بالإذن بفتح تحقيق.

كما أخذ المدعي العام المبادرة في هذا الموضوع، وطلب بناء على الفقرة الأولى من المادة 14 من نظام هذه المحكمة 15، من أي دولة طرف في المحكمة أن تحيل إليه "أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت"، ولهذه الدولة أن تطلب من المدعي العام "التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم". واستجابت 39 دولة طرف في نظام المحكمة لهذا الطلب 16 مما سمح للمدعي العام والمقصود هنا (كريم خان) أن يعلن رسميا، وبتاريخ 2/3/2022، فتح تحقيق في الجرائم التي ارتكبت في أوكرانيا اعتبارا من 21/11/2013، تاريخ بدء المظاهرات في العاصمة (كييف).

تُطرح الأسئلة حاليا عن إمكانية صلاحية المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة المسؤولين الروس، ويعود لمكتب المدعي العام لهذه المحكمة تحديد طبيعة ما تم القيام به ليصار إلى ملاحقة المسؤولين عن ارتكابه.

لن ندخل في باب التكهنات طالما لم يتخذ المدعي العام قراره بعد، ويحدد طبيعة الجرائم التي وقعت على أراضي أوكرانيا، بالرجوع إلى اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك من ستتم ملاحقته، علما بأن جريمة العدوان هي التي تتصدر الجرائم والانتهاكات التي تم ارتكابها حتى الآن على الأراضي الأوكرانية، مع التركيز بأن لا روسيا الاتحادية ولا أوكرانيا قد صادقتا على التعديلات التي طرأت على تعريف جريمة العدوان في نظام المحكمة، هذا من طرف.

ويطرح الفقه القانوني الأوروبي، من طرف آخر، ومع الحرب التي اندلعت في أوكرانيا، فكرة إنشاء محكمة مؤقتة أو مختلطة/ad hoc 17 على غرار المحكمة الجنائية ليوغسلافيا السابقة 18، أو محكمة روندا 19.

فُتحت صفحات جديدة في مجالات تطبيق: القانون الدولي العام، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي الجنائي، وتتم مناقشة عدة نظريات وممارسات قانونية تسمح بمحاسبة المسؤولين عن عمليات غزو القوات الروسية للأراضي الأوكرانية ونتائجه الخطيرة والمؤلمة، من ناحية.

وتنبه المجتمع الدولي، من ناحية ثانية، إلى أخطأه الكبيرة والمأساوية، وتقصيره الذي لم يكن ما يبرره لا قانونيا، ولا إنسانيا، ولا أخلاقيا، حين أغمض عينيه، وأعرض بوجهه، وتجاهل عما كان يحدث في (الشيشان) خلال حربين جرت على الأراضي الأوروبية. حيث امتدت الحرب الأولى من عام 1994 إلى عام 1996، واستمرت الثانية لمدة عامين من عام 1999-2000. واُرتكبت جرائم حرب، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سنوات هاتين الحربين.

وأصبح جليا، من ناحية ثالثة، تجاهل المجتمع الدولي وعلى مدى سنوات لحروب ونزاعات ومآسي عديدة وقعت في بلدان تقع خارج القارة العجوز !

وطرح هذا الغزو الروسي والحرب الجديدة التي اندلعت في أوروبا، أخيرا وليس آخرا، وهنا بيت القصيد، فرضيات جديدة تسمح أيضا بالسعي لمحاسبة المسؤولين عن نزاعات مسلحة دولية وغير دولية اندلعت في مدن وبلدان قارات أخرى، وشهدت مآسي وانتهاكات وجرائم شبيهة بما حدث ويحدث على الأراضي الأوكرانية، وما خلفته من قتل وتشريد ودمار.



[1] انظر:

R. NOLLEZ-GOLDBACH, La Cour pénale internationale, « Que sais-je ? », Paris, PUF, 2018.

[2] انظر التفاصيل على الرابط، تاريخ الاطلاع 7/3/2022:

https://asp.icc-cpi.int/fr_menus/asp/states%20parties/Pages/states%20parties%20_%20chronological%20list.aspx

[3] انظر التفاصيل على الرابط، تاريخ الاطلاع 7/3/2022:

http://www.unilim.fr/iirco/wp-content/uploads/sites/48/2017/06/Dossier-CPI-et-retrait-des-Etats.pdf

[4] انظر لمزيد من التفاصيل: محمد أمين الميداني، مدخل إلى الحماية الدولية لحقوق الإنسان، الطبعة الأولى، منشورات الأكاديمية الدولية لحقوق الإنسان، بيروت، والمركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ستراسبورغ، 2021، ص 83 وما بعدها.

[5] يمكن الاطلاع على نظام المحكمة الجنائية الدولية وبعدة لغات على الرابط:

https://www.icc-cpi.int/Publications/Statut-de-Rome.pdf

[6] تنص المادة 14 من نظام المحكمة على ما يلي: "1- يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معني أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم.

2- تحدد الحالة، قدر المستطاع، الظروف ذات الصلة وتكون مشفوعة بما هو في متناول الدولة المحيلة من مستندات مؤيدة".

[7] نذكر بأن هذه الجرائم هي: جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان.

[8] يمكن الاطلاع على نظام المحكمة الجنائية الدولية وبعدة لغات على الرابط:

https://www.icc-cpi.int/Publications/Statut-de-Rome.pdf

[9] انظر بخصوص تفاصيل جريمة الإبادة الجماعية المادة 6 من نظام المحكمة الجنائية الدولية على الرابط، تاريخ الاطلاع 11/3/2022:

https://www.icc-cpi.int/Publications/Rome-Statute-Arabic.pdf

[10] انظر بخصوص تفاصيل الجرائم ضد الإنسانية المادة 7 من نظام المحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق. وانظر أيضا:

M. DELMAS-MARTY, I. FOUCHARD, E. FRONZA, L. NEYRET, Le crime contre l’humanité, « Que sais-je ? », Paris, PUF, 2018, p.7 s.

[11] انظر بخصوص تفاصيل جرائم الحرب المادة 8 من نظام المحكمة الجنائية الدولية على الرابط، تاريخ الاطلاع 11/3/2022:

https://www.icc-cpi.int/Publications/Rome-Statute-Arabic.pdf

[12] انظر بخصوص تفاصيل جرائم الحرب المادة 8 مكرر من نظام المحكمة الجنائية الدولية، المرجع السابق.

[13] تنص الفقرة 3 من المادة 12 من نظام المحكمة الجنائية الدولية على ما يلي: " إذا اكن قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازما بموجب الفقرة 2، جاز لتلك الدولة، بوجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة، أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث. وتتعاون الدولة مع المحكمة دون تأخير أو استثناء وفقا للباب 9".

[14] انظر، تاريخ الاطلاع 6/3/2022:

https://www.leclubdesjuristes.com/ukraine/agression-de-lukraine-quesperer-de-la-cour-internationale-de-justice-et-de-la-cour-penale-internationale-par-julian-fernandez-professeur-a-luniversite-paris-pantheon-as/?utm_source=sendinblue&utm_campaign=Newsletter_du_Club_des_juristes_-_Spciale_Ukraine_-_Dimanche_6_mars_2022&utm_medium=email

[15] "يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم".

[16] انظر، تاريخ الاطلاع 6/3/2022:

https://www.icc-cpi.int/Pages/item.aspx?name=2022-prosecutor-statement-referrals-ukraine&ln=fr

[17] انظر، تاريخ الاطلاع 6/3/2022:

https://www.leclubdesjuristes.com/ukraine/agression-de-lukraine-quesperer-de-la-cour-internationale-de-justice-et-de-la-cour-penale-internationale-par-julian-fernandez-professeur-a-luniversite-paris-pantheon-as/?utm_source=sendinblue&utm_campaign=Newsletter_du_Club_des_juristes_-_Spciale_Ukraine_-_Dimanche_6_mars_2022&utm_medium=email

[18] انظر بخصوص المحكمة الجنائية الدولية، محمد أمين الميداني، "المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (عرض عام لنظام المحكمة وظروف نشأتها)"، في: محمد أمين الميداني، المختار من دراسات الحماية الدولية لحقوق الإنسان، الطبعة الأولى، منشورات المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ستراسبورغ، والمعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان، جنيف، 2018، ص 7 وما بعدها.

[19] انظر بخصوص محكمة روندا، محمد أمين الميداني، "انتهاء ولاية محكمة جنائية دولية مؤقتة: محكمة رواندا نموذجا"، في المرجع السابق، ص 163 وما بعدها.

back