1- سأذكر مجددا ببعض التعاريف التي ذكرتها، ويوجد بالطبع غيرها، فيما يخص مفهوم "العدالة الانتقالية". وما سأقدمه يعتمد على إحدى إصدارات المفوضية السامية لحقوق الإنسان (جنيف)، وما يمكن أن نجده أيضا على موقعها الالكتروني، حيث تم تعريف هذا المفهوم على أنه: "كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة". كما تهدف هذه العدالة "إلى الاعتراف بضحايا تجاوزات الماضي على أنهم أصحاب حقوق، وتعزيز الثقة بين الأفراد في المجتمع الواحد، وثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون وبالتالي، تسعى العدالة الانتقالية إلى المساهمة في المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة".
أما المصدر الثاني فيقترحه المركز الدولي للعدالة الانتقالية (نيويورك): "تشير العدالة الانتقاليّة إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصارخة لحقوق الإنسان. وهي تطرح بعضا من أشد الأسئلةِ صعوبةً إن في القانون أم السياسة أم العلوم الاجتماعيّة، وتجهد لحسمِ عدد لا يحصَى من الجدالات. إن العدالة الانتقالية تُعنى، أولا، بالضحايا، قبل أي اعتبارٍ آخر". ويتطرق التعريف إلى "الطرق التي تعالج بها البلدان الخارجة من فترات الصراع والقمع، انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق أو المنهجية التي تكون عديدة وخطيرة للغاية بحيث لا يتمكن نظام العدالة العادي من تقديم استجابة مناسبة". ويمكن أن نشير إلى بعض هذه الطرق مثل: التدابير المستخدمة في الملاحقات الجنائية، ولجان الحقيقة، وبرامج التعويضات وإعادة الحقوق، والكشف عن المقابر الجماعية، والاعتذارات، والعفو الخ.
2- لا بد من الإشادة بالمرسوم رقم 20 الذي اصدره الرئيس السوري بتاريخ 17/5/2025، والذي كان ينتظره بلهفه الشعب السوري، والقاضي بتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية"، والتي ستتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتغطي مهامها أنحاء الأراضي السورية، وعليها كشف الحقائق فيما يتعلق بالانتهاكات التي وقعت في سنوات النظام البائد، وكذلك "محاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر الواقع على الضحايا" 2.
وبيّن من جهته رئيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، وبتاريخ 23/5/2025، ملامح خارطة الطريق الذي ستنتهجه هذه الهيئة مع التركيز على أن هذه الهيئة لن تكون "انتقاميــة" 3.
3- ليسمح لي رئيس اللجنة بلفت نظره إلى ضرورة الاطلاع على قرار مجلس حقوق الإنسان رقم 18/7، تاريخ 29/9/2011 4، والخاص بإنشاء منصب "المقرر الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار". وقد مُددت ولاية المقرر الخاص لمدة ثلاث سنوات إضافية بقرار رقم 36/7 من طرف مجلس حقوق الإنسان.
أما الأهداف التي يعمل عليها هذا المقرر الخاص، وكما جاء التوضيح على موقع المفوضية السامية لحقوق الإنسان، فهي:
"- ضمان المساءلة وخدمة العدالة؛
- تعزيز الحقيقة وتخليد الذكرى بشأن الانتهاكات السابقة؛
- توفير سبل الانتصاف للضحايا؛
- إصلاح الإطار المؤسسي والقانوني الوطني وتعزيز سيادة القانون بما يتوافق مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة؛
- ضمان التماسك الاجتماعي، وبناء الدولة، والإمساك بزمام الأمور والإدماج على الصعيدين الوطني والمحلي؛ تعزيز التعافي والمصالحة؛
- منع تكرار الأزمات وأي انتهاكات مستقبلية لحقوق الإنسان" 5.
ونريد أن نذكر أخيرا بأنه يجب إنجاز تشكيل فريق العمل في الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، ووضع نظامها الداخلي في خلال مدة لا تتجاوز 30 يومًا اعتبارا من تاريخ 17/5/2025.
وأريد أن اختم هذه الأسطر ببعض التوصيات والمقترحات:
1- ضرورة التواصل مع المقرر الخاص المعني الحالي بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار والذي تحدثنا عن مهامه آنفا. للتباحث معه في آلية التعاون المشترك بينه وبين الهيئة والاستفادة من خبراته وخبرات المقررين الخواص السابقين الذين كلفوا بهذه المهام 6.
2- الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي شهدت تأسيس لجان للعدالة الانتقالية، ويمكن في هذا الخصوص الاستفادة من التجربة المتميزة للمملكة المغربية التي شهدت تأسيس "هيأة الإنصاف والمصالحة" 7.
3- يجب أن يتوسع النظام الداخلي لهذه الهيئة بشكل يشمل كل الانتهاكات في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
[1] انظر، محمد أمين الميداني، "نحو تطبيق العدالة الانتقالية في سورية الجديدة"، جريدة (الجريدة)، الكويت، 25/12/2024.
[2] انظر، تاريخ الاطلاع: 26/5/2025، على الرابط:
[3] انظر، تاريخ الاطلاع: 26/5/2025:
[4] انظر، تاريخ الاطلاع: 26/5/2025:
https://docs.un.org/ar/A/HRC/RES/18/7
[5] انظر، تاريخ الاطلاع: 26/5/2025:
[6] اقترح التواصل مع البروفيسور سالفيولي من الأرجنتين، والذي كان مقررا خاصا سابقا. ويمكن الاطلاع على تقريره الأخير الذي يحمل الرقم A/HRC/48/60، تاريخ 9/7/2021.
والبروفيسور سالفيولي زميل وسبق أن تعاوننا، وقدمنا محاضرات سوية في دورات المعهد الدولي لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، كما دعاني للمشاركة بأحد المؤتمرات التي نظمها في كلية القانون بجامعة لا بلاتا بالأرجنتين، ومن الممكن التواصل معه ولا بد بأنه سيكون مهتما ومتحمسا لتقديم خبراته إلى أعضاء الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية في سورية.
[7] انظر تفاصيل هذه التجربة الغنية في: امبارك بودرقة، أحمد شوقي بنيوب، كذلك كان، مذكرات من تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة، الطبعة الثانية، دار النشر المغربية، 2017.