تبقى الدول، وحسب ما هو متعارف عليه قانونيا، وبعد تغيير أنظمتها السياسية ووصول سلطات جديدة لسدة الحكم، ملزمة من حيث المبدأ بما صادقت عليه من مختلف الاتفاقيات والمعاهدات إلا إذا أعلنت صراحة وأبلغت الجهات الدولية المعنية برغبتها بالتنصل من هذه الاتفاقيات والمعاهدات أو بعض منها، وبالتالي عدم الالتزام بما نصت عليه.
ولم يصدر، حسب علمنا، أي تصريحات من قبل السلطات الحكومية السورية الحالية ما يفيد بتنصلها أو انسحابها من الاتفاقيات الدولية والإقليمية لحماية حقوق الإنسان والتي تمت المصادقة عليها والالتزام بها في خلال العقود الماضية، مما يعني بأن الجمهورية العربية السورية كدولة تبقى مرتبطة بهذه الاتفاقيات وعليها أن تفي بالالتزامات المترتبة على عاتقها حسب فصول هذه الاتفاقيات وموادها وفقراتها.
واخترنا أن نتطرق في هذه الدراسة لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية ولا تزال ملتزمة بها، وهي تمثل أهمية خاصة في هذه الظروف التي يتم الحديث فيها عن محاسبة المسؤولين عن جرائم التعذيب التي اُرتكبت في سنوات الثورة السورية وما قبلها أيضا مما يُعطي لهذه الاتفاقية بُعدا معنويا ويشكل تطبيقها واحترام نصوصها مجالات حيوية وهامة يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار في هذه الأوقات التي يتم الحديث فيها وبشكل متكرر ومتواصل عن العدالة الانتقالية 1.
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة بتاريخ 10/12/1984، ودخلت حيز النفاذ في 26/6/1987. وصادقت الجمهورية العربية السورية على هذه الاتفاقية في 19/8/2004.
واعتمدت أيضا هذه الجمعية العامة البروتوكول الاختياري المضاف إلى اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، بتاريخ 18/12/2002، ودخل حيز النفاذ في 22/6/2006. ولم تصادق حتى تاريخه الجمهورية العربية السورية على هذا البروتوكول، فلن يتم التطرق إليه في هذه الدراسة 2.
سنتعرف باختصار على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (الفرع الأول)، ونتطرق بعدها إلى الدعوى المرفوعة من قبل مملكة هولندا وكندا ضد الجمهورية العربية السورية والمتعلقة بانتهاكاتها لاتفاقية مناهضة التعذيب (الفرع الثاني).
الفرع الأول
مضمون اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة
سنتطرق إلى التعاريف (أولا)، وإلى التزامات الدول الأطراف في هذه الاتفاقية (ثانيا)، وأخيرا إلى آلية الاتفاقية (ثالثا).
أولا
تعاريف
نصت هذه الاتفاقية الدولية على نوعين من التعاريف، وهي:
1- التعذيب: لعل ما يميز هذه الاتفاقية عن غيرها من الاتفاقيات الدولية التي تسعى لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية هو التعريف الذي نصت عليه، في مادتها الأولى، لمفهوم "التعذيب" الذي قصد به: "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه أرتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها".
نستطيع القول، بأنه على الرغم من طول هذا التعريف، ومحاولته لوضع قائمة بكل الأفعال التي يمكن أن تنطوي تحت عنوان "التعذيب"، فإنه لم يصنف كل هذه الأفعال ولم يحصرها أيضا. كما أن ذكر عدد من الأشخاص (الموظف الرسمي، أو شخص آخر يتصرف بصفة رسمية) لا يعني بأنهم يتحملون وحدهم مسؤولية الأفعال التي تنطوي تحت هذا التعريف، بل يبقى الباب مفتوحا لتحمل غيرهم مثل هذه المسؤولية.
2- المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة: ميزت اتفاقية مناهضة التعذيب بين "التعذيب"، و"المعاملة اللاإنسانية"، و"المعاملة المهينة" اعتمادا على "درجة الآلام التي يتعرض لها الضحايا" 3.
ثانيا
التزامات الدول الأطراف في اتفاقية مناهضة التعذيب
وضعت بعض مواد الجزء الأول من هذه الاتفاقية الدولية عدد من الالتزامات على عاتق الدولة الطرف فيها. حيث أوضحت أن على هذه الدولة أن تتخذ إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعّالة أو أي اجراءات أخرى "لمنع أعمال التعذيب في أي إقليم يخضع لقضائها" (المادة 2 الفقرة الأولى)، وهذه الالتزامات هي:
1- حظر مجموعة من الأفعال والممارسات: حظرت اتفاقية مناهضة التعذيب على الدول الأطراف فيها مجموعة من الأفعال والممارسات، وهي:
أ) أن يتم التذرع "بأية ظروف استثنائية" كمبرر للتعذيب حتى ولو كانت هذه الظروف "حالة حرب أو تهديدا بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أية حالة من حالات الطوارئ العامة " (المادة 2، الفقرة 2).
ب) أن يتم التذرع، كمبرر لممارسة التعذيب، "بالأوامر الصادرة عن موظفين أعلى مرتبة أو عن سلطة عامة" (المادة 2 الفقرة 3).
ج) أن تطرد دولة طرف أي شخص أو تعيده أو ترده أو تسليمه إلى دولة أخرى "إذا توافرت لديها أسباب حقيقية تدعو إلى الاعتقاد بأنه سيكون في خطر التعرض للتعذيب". ويجب، في هذه الحالة، أن تتم مراعاة الاعتبارات المتعلقة بهذه الأسباب، والتأكد من "وجود نمط ثابت من الانتهاكات الفادحة أو الصارخة أو الجماعية لحقوق الإنسان في الدولة المعنية" (المادة 3 الفقرتان 1، و2).
2- تجريم مجموعة من الأفعال والممارسات: كرست اتفاقية مناهضة التعذيب معظم مواد الجزء الثاني (المواد 4، و5، و6، و7، و8، و9، و11، و13، و15) لتجريم أفعال وممارسات التعذيب ومحاكمة مرتكبي هذه الأفعال والممارسات وتسليمهم إلى السلطات المختصة، ولتحقيق التعاون بين الدول الأطراف في هذه الاتفاقية من خلال تقديم المساعدة فيما يتعلق بالإجراءات الجنائية الخاصة بالجرائم التي حددتها المادة 4 من هذه الاتفاقية. حيث تنص هذه المادة 4 على واجب الدولة الطرف في الاتفاقية بتجريم "جميع أعمال التعذيب"، وكذلك تجريم أي "محاولة لممارسة التعذيب"، والقيام بأي عمل آخر "يشكل تواطؤا ومشاركة في التعذيب".
3- تعويض ضحايا التعذيب: ألزمت اتفاقية مناهضة التعذيب كل دولة طرف فيها بإنصاف من يتعرض لأعمال التعذيب وبحق قابل للتنفيذ "في تعويض عادل ومناسب بما في ذلك إعادة تأهيله على أكمل وجه ممكن". أما في حالة وفاة شخص نتيجة عمل من أعمال التعذيب "فيكون للأشخاص الذين يعولهم الحق في التعويض" (المادة 14، الفقرة الأولى). ولا ينقص هذا التعويض من حق الشخص المعتدى عليه أو غيره من الأشخاص من تعويض تنص عليه القوانين الوطنية لهذه الدولة (المادة 14، الفقرة 2).
4- إدراج حظر التعذيب في برامج تدريب الموظفين: ركزت اتفاقية مناهضة التعذيب على أهمية التعليم والإعلام وبرامج التعليم للموظفين، من ناحية، وعلى ضرورة حظر التعذيب في القوانين والتعليمات المتعلقة بهؤلاء الموظفين، من ناحية ثانية، وهو ما اعتبره بعضهم كنوع من أنواع الوقاية من التعذيب 4. فيجب، حسب المادة 10، الفقرة الأولى، على كل دولة طرف في اتفاقية مناهضة التعذيب أن تدرج حظر التعذيب في برامج "تدريب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين، سواء أكانوا من المدنيين أو العسكريين، والعاملين في ميدان الطب، والموظفين العموميين أو غيرهم ممن قد تكون لهم علاقة باحتجاز أي فرد معّرض لأي شكل من أشكال التوقيف أو الاعتقال أو السجن أو باستجواب هذا الفرد أو معاملته". كما يجب، بمقتضى الفقرة 2 من نفس المادة، إدراج حظر التعذيب في "القوانين والتعليمات التي يتم إصدارها فيما يختص بواجبات ووظائف" الأشخاص الذين جاء ذكرهم في الفقرة الأولى.
ثالثا
آلية اتفاقية مناهضة التعذيب والمعاملات القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة
خصصت هذه الاتفاقية جزئها الثاني للبحث في آلية وضع أحكامها موضع النفاذ، من خلال إنشاء لجنة تسمى "لجنة مناهضة التعذيب"، كما حددت اختصاصاتها.
1- تأليف لجنة مناهضة التعذيب
أ) أعضاء اللجنة: تتألف هذه اللجنة، الفقرة الأولى من المادة 17، من 10 خبراء يتم انتخابهم، لمدة أربع سنوات، بصفتهم الشخصية من بين مواطني الدول الأطراف في الاتفاقية. ويجب أن يكون الخبراء "على مستوى أخلاقي عال ومشهود لهم بالكفاءة في ميدان حقوق الإنسان". ويراعى في اختيارهم التوزيع الجغرافي العادل. وأضافت الفقرة 2 من المادة 17 توجيه للدول الأطراف خاص بأعضاء هذه اللجنة، لم نراه في بقية الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان وآلية تطبيقها، ألا وهو "فائدة ترشيح أشخاص يكونون أيضا أعضاء في اللجنة المعنية بحقوق الإنسان المنشأة بمقتضى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ولديهم الاستعداد للعمل في لجنة مناهضة التعذيب".
ب) مركز اللجنة ودوراتها: تعقد اللجنة عادة دورتين في السنة بمدينة جنيف، ولكن يحق لها عقد دورة استثنائية بقرار تتخذه اللجنة نفسها أو بطلب من أغلبية أعضائها أو بطلب من دولة طرف.
2- اختصاصات لجنة مناهضة التعذيب
أ) دراسة التقارير التي تقدمها الدول الأطراف في الاتفاقية: أوضحت المادة 16 من الاتفاقية، أن الدول الأطراف فيها تقدم إلى هذه اللجنة، وعن طريق الأمين العام للأمم المتحدة، "تقارير عن التدابير التي اتخذتها تنفيذا لتعهداتها بمقتضى هذه الاتفاقية، وذلك في غضون سنة واحدة بعد بدء نفاذ هذه الاتفاقية بالنسبة للدولة الطرف المعنية". وتضيف الفقرة الأولى من المادة 19 بأن الدول الأطراف تقدم بعد ذلك "تقارير تكميلية مرة كل أربع سنوات عن أية تدابير جديدة تم اتخاذها، وغير ذلك من التقارير التي قد تطلبها اللجنة". ويحيل الأمين العام للأمم المتحدة هذه التقارير إلى جميع الدول الأطراف في الاتفاقية. وتبدأ اللجنة، عملا بالفقرة 3 من المادة 19، بالنظر في هذه التقارير، وتبدي تعليقاتها العامة عليها، وتبلغها إلى الدولة الطرف المعنية. ولهذه الدولة أن ترد على هذه التعليقات بما تراه من ملاحظات. ويجوز للجنة أن تقرر، حسب الفقرة 4 من المادة 19، إدراج أية ملاحظات خاصة بهذه التقارير في تقريرها السنوي الذي ترفعه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويحق لها أن تورد فيه الملاحظات التي أبدتها الدولة الطرف المعنية.
ب) التحقيق في المعلومات التي تصلها عن ممارسة التعذيب في الدول الأطراف: نصت الفقرة الأولى من المادة 20 من الاتفاقيـة على أنه "إذا تلقت اللجنة معلومات موثوقا بها يبدو لها أنها تتضمن دلائل لها أساس قوي تشير إلى أن تعذيبا يمارس على نحو منظم في أراضي دولة طرف، تدعو اللجنة الدولة الطرف المعنية إلى التعاون في دراسة هذه المعلومات، وتحقيقا لهذه الغاية إلى تقديم ملاحظات بصدد تلك المعلومات". وقدمت الجمهورية العربية السورية إعلانا يوضح بأنها لا تقبل باختصاص هذه اللجنة عملا بما نصت عليه المادة 20 من الاتفاقية 5.
ج) استلام البلاغات الحكومية عن ممارسة التعذيب والنظر فيها: جاء في الفقرة الأولى من المادة 21 من الاتفاقيـة بأنه يحق "لأية دولة طرف في هذه الاتفاقية أن تعلن، في أي وقت، بموجب هذه المادة، أنها تعترف باختصاص اللجنة في أن تسلم بلاغات تفيد أن دولة طرفا تدعي بأن دولة طرفا أخرى لا تفي بالتزاماتها بموجب هذه الاتفاقية في أن تنظر في تلك البلاغات". ولم تقبل الجمهورية العربية السورية بما نصت عليه المادة 21.
د) استلام البلاغات الفردية عن ممارسة التعذيب والنظر فيها: بينت الفقرة الأولى من المادة 22 من الاتفاقية بأنه "يجوز لأية دولة طرف في هذه الاتفاقية أن تعلن في أي وقت أنها تعترف بمقتضى هذه المادة باختصاص اللجنة في تسلم ودراسة بلاغات واردة من أفراد أو نيابة عن أفراد يخضعون لولايتها القانونية ويدعون أنهم ضحايا لانتهاك دولة طرف أحكام الاتفاقيـة". واشترطت أيضا الفقرة 8 من نفس المادة قبول خمس دول أطراف في الاتفاقية بما جاء في هذه الفقرة الأولى حتى تتمكن اللجنة من تسلم البلاغات الفردية ودراستها. كما يجوز سحب هذا القبول لاحقا. وتوجد مجموعة من الإجراءات والشروط يجب أن يتم الالتزام بها أمام "لجنة مناهضة التعذيب" حتى يجوز لها النظر في البلاغات الفردية 6. ولم تقبل الجمهورية العربية السورية بما نصت عليه المادة 22.
هـ) اللجوء إلى التحكيم وإلى محكمة العدل الدولية: أتاحت الفقرة الأولى من المادة 30 من اتفاقية مناهضة التعذيب للدول الأطراف فيها اللجوء إلى التحكيم أو إحالة نزاع قد ينشأ بينهم إلى محكمة العدل الدولية ونصت هذه الفقرة على ما يلي: "أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول فيما يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو تنفيذها ولا يمكن تسويته عن طريق التفاوض، يطرح للتحكم بناء على طلب إحدى هذه الدول فإذا لم تتمكن الأطراف في غضون ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، من الموافقة على تنظيم التحكيم، يجوز لأى من تلك الأطراف أن يحيل النزاع إلى محكمة العدل الدولية بتقديم طلب وفقا للنظام الأساسي لهذه المحكمة". وأتاحت الفقرة 2 من هذه المادة لأي دولة طرف في الاتفاقية أن تتحفظ على هذه الفقرة الأولى. ولم تتحفظ الجمهورية العربية السورية على الفقرة الأولى من المادة 30 مما اتاح لكل من مملكة هولندا وكندا تقديم شكوى ضدها أمام محكمة العدل الدولية، وهو ما يصب في مصلحة ضحايا التعذيب الذي تمت ممارسته خلال عدة عقود من تاريخ سورية المعاصر.
الفرع الثاني
انتهاك سورية لاتفاقية مناهضة التعذيب والشكوى أمام محكمة العدل الدولية
سنتعرف باختصار على محكمة العدل الدولية (أولا)، ونتطرق بعدها للدعوى المرفوعة ضد سورية أمام هذه المحكمة (ثانيا).
أولا
محكمة العدل الدولية
تُعّد محكمة العدل الدولية الأداة القضائية لمنظمة الأمم المتحدة 7، وشاركت الجمهورية العربية السورية بالتوقيع على ميثاق منظمة الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية بتاريخ 26/6/1945. ويُعّد توقيع سورية على ميثاق منظمة الأمم المتحدة قبولا منها بالولاية الإلزامية لمحكمة العدل الدولية.
ثانيا
دعوى ضد سورية أمام محكمة العدل الدولية
سبق أن بينّا أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة بتاريخ 10/12/1984، ودخلت حيز النفاذ في 26/6/1987. وأن الجمهورية العربية السورية صادقت على هذه الاتفاقية في 19/8/2004، مع عدد من التحفظات تتعلق بالمواد 20، و21، و22، ولكنها لم تتحفظ - لحسن الحظ - على المادة 30 من هذه الاتفاقية والتي تسمح بتقديم شكوى ضدها أما محكمة العدل الدولية.
ورفعت بالفعل كل من مملكة هولندا وكندا، وبتاريخ 3/6/2023، دعوى ضد الجمهورية العربية السورية تتعلق بانتهاكها لأحكام العديد من مواد اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وهذه المواد هي: 2، و7، و10، و11، و12، و13، و14، و15، و16، و19 8.
وأوضحت كلا الدولتين في العريضة المشتركة المتعلقة بهذه القضية بأن "سورية ارتكبت انتهاكات لا حصر لها للقانون الدولي، بدءا من عام 2011 على الأقل، بقمعها العنيف لمظاهرات المدنيين، وهو ما يزال مستمرا مع تحول الوضع في سورية إلى نزاع مسلح طويل الأمد" 9. وأشارت العريضة إلى الانتهاكات التي ارتكبت وهي تشمل: "استخدام التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة....، بما في ذلك من خلال المعاملة البغيضة للمحتجزين، والظروف اللاإنسانية في أماكن الاحتجاز، والاختفاء القسري، واستخدام العنف الجنسي والجنسائي، والعنف ضد الأطفال" 10. وسعى الطرفان المدعيان في عريضتهما لربط مسؤولية سورية عن انتهاكات اتفاقية مناهضة التعذيب بربط مسؤوليتها باستخدام الأسلحة الكيميائية.
واعتمدت كل من مملكة هولندا وكندا، في هذه القضية المرفوعة ضد سورية، على الفقرة الأولى من المادة 30، والتي تنص على ما يلي: "أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول فيما يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو تنفيذها ولا يمكن تسويته عن طريق التفاوض، يطرح للتحكم بناء على طلب إحدى هذه الدول فإذا لم تتمكن الأطراف في غضون ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، من الموافقة على تنظيم التحكيم، يجوز لأي من تلك الأطراف أن يحيل النزاع إلى محكمة العدل الدولية بتقديم طلب وفقا للنظام الأساسي لهذه المحكمة".
وطالب الطرفان المدعيان من المحكمة اتخاذ "تدابير تحفظية/مؤقتة" بغرض حماية حقوقهما كما تنص عليه اتفاقية مناهضة التعذيب لاستمرار سورية بانتهاكها، وبقصد "حماية أرواح أفراد وسلامتهم البدنية والعقلية داخل سورية ممن يُمارس عليهم حاليا أو هم مهددون بأن يُمارس عليهم التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة" 11.
وطالب النظام البائد في الجمهورية العربية السورية، وبتاريخ 19/7/2023 بتأجيل جلسات الاستماع في رحاب المحكمة بخصوص اتخاذ "تدابير تحفظية/تدابير مؤقتة" 12، فوافقت المحكمة وأُجلت جلسات الاستماع العلنية بشأن اتخاذ هذه التدابير.
ولكن اتخذت محكمة العدل الدولية لاحقا، وبتاريخ 16/11/2023، قرارا باعتماد "تدابير تحفظية/تدابير مؤقتة"، ونص هذا القرار على ما يلي:
1- "تتخذ الجمهورية العربية السورية، وفقا لالتزاماتها بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، جميع التدابير التي في وسعها لمنع أعمال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وتكفل عدم ارتكاب مسؤوليها وأي منظمات أو أشخاص قد يخضعون لسيطرتها أو توجيهها أو نفوذها أي أعمال تعذيب أو غيرها من أعمال المعاملة أو العقوبة القاسية أو المهينة". وتمت التصويت على هذه الفقرة من القرار بأغلبية ثلاثة عشر صوتا مقابل صوتين من أصوات قضاة المحكمة.
2- "تتخذ الجمهورية العربية السورية تدابير فعالة لمنع إتلاف، وضمان حفظ، أي أدلة تتعلق بادعاءات وقوع أفعال تدخل في نطاق اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة". وتمت التصويت على هذه الفقرة من القرار بأغلبية ثلاثة عشر صوتا مقابل صوتين من أصوات قضاة المحكمة.
3- "وبموجب أمر مؤرخ في 1 شباط/فبراير 2024، حددت المحكمة تاريخ 3 شباط/فبراير 2025 أجلا لكندا ومملكة هولندا لإيداع مذكرتهما و3 شباط/فبراير 2026 لإيداع الجمهورية العربي السورية مذكرتها المضادة" 13.
لم يُنشر حتى تاريخه على موقع محكمة العدل الدولية ما يُشير إلى أن مملكة هولندا وكندا قدمتا مذكراتهما المتعلقة بالدعوى التي تم رفعها ضد الجمهورية العربية السورية لتعزيز حججهما، ولعل تغير نظام الحكم في سورية أجل ذلك.
الخاتمة
قمنا بالتعريف باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة وآليتها، في المبحث الأول من هذه الدراسة، وخصصنا المبحث الثاني للدعوى المرفوعة من قبل مملكة هولندا وكندا ضد الجمهورية العربية السورية أمام محكمة العدل الدولية، وما صدر من قرارات من قبل هذه المحكمة الدولية.
لقد أردنا في مرحلة أولى أن نعّرف القراء باتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، ونبيّن أهمية هذه الاتفاقية وآليتها طالما أن الجمهورية العربية السورية صادقت عليها ولو ببعض التحفظات على عدد من موادها.
وأردنا في مرحلة لاحقة أن نبين بأن هناك التزامات مترتبة على الجمهورية العربية السورية نظرا لمصادقتها على هذه الاتفاقية مما سمح لاحقا لكل من مملكة هولندا وكندا ضد برفع دعوى ضد الجمهورية العربية السورية أمام محكمة العدل الدولية.
نحن بانتظار آخر التطورات، ونترقب الاطلاع على الدفوع التي ستقدمها هاتين الدولتين أمام هذه المحكمة، والدفوع التي يمكن أن تقدمها الجمهورية العربية السورية، ولكن السؤال الهام هو: هل ستتواجب السلطات السورية الجديدة مع ما طلبته منها المحكمة، أم أن تغيير النظام، وبنية الحكم ستعدل من مواقف الدول التي رفعت هذه الدعوى ومواقف الدولة المعية عليها؟
سيكون من الأفضل أن يتم متابعة المحاكمة، وأن تكشف السلطات السورية المعنية أمام محكمة العدل الدولية الممارسات البشعة والشنيعة التي ارتكبها النظام الأسدي البائد، مما سيساعد محكمة العدل الدولية على إصدار قرارها في هذه القضية، هذا القرار الذي سيعزز لاحقا ملاحقة كل المسؤولين عن الانتهاكات التي تمت في سورية خلال العقود السابقة وسيعزز نظرية عدم الإفلات من العقاب.
[1] انظر، محمد أمين الميداني، "نحو تطبيق العدالة الانتقالية في سورية الجديدة"، جريدة (الجريدة)، الكويت، 25/12/2024.
[2] انظر بخصوص هذا البروتوكول، محمد أمين الميداني، المختار من دراسات الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان، الطبعة الثانية، منشورات المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، ستراسبورغ، ومركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان، تعز، 2020، ص 176 وما بعدها. (لاحقا، الميداني، المختار من دراسات الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان).
[3] انظر:
D. ROUGET, Mécanismes universels et régionaux de lutte contre la torture, Association pour la prévention de la tortue, Genève, 2000, p.15.
[4] انظر المرجع السابق، ص 19.
[5] انظر، تاريخ الاطلاع: 9/4/2025:
https://treaties.un.org/pages/ViewDetails.aspx?src=TREATY&mtdsg_no=IV-9&chapter=4&clang=_fr#EndDec
[6] انظر هذه الشروط في: الميداني، المختار من دراسات الحماية الإقليمية لحقوق الإنسان، ص 175 وما بعدها.
[7] انظر بخصوص هذه المحكمة، محمد أمين الميداني، قاضيان سوريان في محكمة العدل الدولية، الطبعة الأولى، منشورات شركة المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، 2024.
[8] يمكن الاطلاع على مضمون هذه المواد في نص هذه الاتفاقية في: المعاهدات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان، مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، الأمم المتحدة، نيويورك، جنيف، 2014، ص 171 وما بعدها.
[9] انظر، تاريخ الاطلاع: 6/4/2025:
https://www.icj-cij.org/sites/default/files/2024-10/2023-2024-ar.pdf
[10] المرجع السابق.
[11] المرجع السابق.
[12] انظر بخصوص التدابير المؤقتة أو التحفظية، محمد أمين الميداني، "اعتماد المحاكم الدولية للتدابير المؤقتة: المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان نموذجا"، نُشرت هذه المقالة على موقع المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، تاريخ النشر 30/10/2022، على الرابط:
https://acihl.org/articles.htm?article_id=78
[13] انظر، تاريخ الاطلاع: 6/4/2025:
https://www.icj-cij.org/sites/default/files/2024-10/2023-2024-ar.pdf